فصل: تفسير الآيات (1- 7):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعلبي



.سورة الحج:

مكيّة غير ست آيات نزلت بالمدينة وهي قوله: {هذان خصمان} إلى قوله: {الحميد}، وهي خمسة آلاف وخمسة وتسعون حرفاً وألف ومائتان وإحدى وسبعون كلمة وثمان وسبعون آية.
أخبرنا أبو الحسن الجرجاني غير مرَّة قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي وأبو الشيخ عبد الله بن محمد الأصبهاني قالا: حدَّثنا أبو إسحاق إبراهيم بن شريك قال: حدَّثنا أحمد بن يونس اليربوعي قال: حدَّثنا سلام بن سليم المدائني قال: حدَّثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أُبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الحج أُعطي من الأجر كحجّة حجّها وعُمْرة اعتمرها بعدد مَن حج واعتمر فيما مضى وفيما بقي».
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

.تفسير الآيات (1- 7):

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)}
{ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ الساعة شَيْءٌ عَظِيمٌ} الزلزلة والزلزال: شدّة الحركة على الحال الهائلة، من قوله: زلّت قدمه إذا زالت عن الجهة بسرعة، ثم ضوعف.
{يَوْمَ تَرَوْنَهَا} يعني الساعة {تَذْهَلُ} أي تشغل، عن ابن عباس، وقال الضحّاك تسلو، ابن حيان: تنسى، يقال: ذهلت عن كذا أي تركته واشتغلت بغيره أذهل ذهولاً، وأذهلني الشيء إذهالاً. قال الشاعر:
صحا قلبه ياعزُّ أو كاد يذهل... {كُلُّ مُرْضِعَةٍ} يعني ذات ولد رضيع، والمرضع المرأة التي لها صبي ترضعه لغيرها، هذا قول أهل الكوفة، وقال أهل البصرة: يقال: امرأة مرضع إذا أُريد به الصفة مثل مقرب ومشرق وحامل وحائض، فإذا أرادوا الفعل أدخلوا الهاء فقيل: مرضعة، التي ترضع وَلَدَها.
{وتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا} أي تسقط ولدها من هول ذلك اليوم.
{وَتَرَى الناس سكارى وَمَا هُم بسكارى}.
قال الحسن: معناه: وترى الناس سكارى من الخوف، ما هم بسكارى من الشراب.
وقال أهل المعاني: مجازه: وترى الناس كأنّهم سكارى، تدل عليه قراءة أبي زرعة بن عمرو بن جرير: وتُرى الناس بضم التاء أي تظن.
وقرأ أهل الكوفة إلاّ عاصماً: سكرى وما هم سكرى بغير ألف فيهما، وهما لغتان لجمع السكران مثل كسلى وكسالى {ولكن عَذَابَ الله شَدِيدٌ}.
روى عمران بن حصين وأبو سعيد الخدري وغيرهما: إنَّ هاتين الآيتين نزلتا ليلاً في غزوة بني المصطلق وهم حيّ من خزاعة والناس يسيرون، فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحثوا المطيّ حتى كانوا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأهما عليهم فلم يُر أكثر باكياً من تلك الليلة، فلمّا أصبحوا لم يحطّوا السُرُج عن الدواب ولم يضربوا الخيام ولم يطبخوا قدراً والناس من بين باك أو حاسر حزين متفكّر، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أبشروا وسدّدوا وقاربوا، فإن معكم خليقتين ما كانتا في قوم إلاّ كثّرتاه يأجوج ومأجوج».
ثمَّ قال: إنّي لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، فكبّروا وحمدوا الله، ثمَّ قال: «إنّي لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة، فكبّروا وحمدوا الله، ثمَّ قال: اني لأرجوا أن تكونوا نصف أهل الجنة فكبّروا وحمدوا الله، ثمَّ قال: إنّي لأرجو أن تكونوا ثلثي أهل الجنّة وإنّ أهل الجنة، مائة وعشرون صفاً، ثمانون منها أُمّتي وما المسلمون في الكفّار إلاّ كالشامة في جنب البعير أو كالرقمة في ذراع الدابة، بل كالشعرة السوداء في الثور الأبيض، أو كالشعرة البيضاء في الثور الأسود، ثمَّ قال: ويدخل من أُمتي سبعون ألفاً الجنة بغير حساب، فقال عمر: سبعون ألفاً؟ فقال: نعم ومع كلّ واحد سبعون ألفاّ، فقام عكاشة بن محصن فقال: يارسول الله ادع الله اٌن يجعلني منهم، قال: أنت منهم، فقام رجل من الأنصار فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم سبقك بها عكاشة».

.تفسير الآيات (8- 18):

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14) مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)}
{ومِنَ الناس مَن يُجَادِلُ فِي الله بِغَيْرِ عِلْمٍ} نزلت في النضر بن الحرث، كان كثير الجدال فكان يقول: الملائكة بنات الله، والقرآن أساطير الأولين، ويزعم أنّ الله غير قادر على إحياء من قد بلي وعاد تراباً.
قال الله سبحانه {وَيَتَّبِعُ} في قيله ذلك وجداله في الله بغير علم {كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ كُتِبَ عَلَيْهِ} قضي عليه، على الشيطان {أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ} اتّبعه {فَأَنَّهُ} يعني الشيطان {يُضِلُّهُ} يعني يضلّ من تولاه {وَيَهْدِيهِ إلى عَذَابِ السعير} وتأويل الآية: قضي على الشيطان أنّه يضلّ أتباعه ويدعوهم إلى النار.
ثمّ ألزم الحجّة منكري البعث فقال عزَّ من قائل {ياأيها الناس إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ البعث فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ} يعني أباكم آدم الذي هو أصل النسل ووالد البشر {مِّن تُرَابٍ} ثم ذرّيته {مِن نُّطْفَةٍ} وهو المنيّ وأصلها الماء القليل وجمعها نطاف {ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ} وهي الدم العبيط الجامد وجمعها علق {ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ} وهي لحمة قليلة قدر ما تمضغ {مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ}.
قال ابن عباس وقتادة: تامّة الخلق وغير تامة.
وقال مجاهد: مصوّرة وغير مصوّرة يعني السقط.
قال عبد الله بن مسعود: إذا وقعت النطفة في الرحم بعث الله عزّ وجلّ مَلَكاً فقال: يا رب مخلّقة أو غير مخلقة؟ فإن قال: غير مخلّقة مجّتها الأرحام دماً وإن قال: مخلّقة قال: يا ربّ فما صفة هذه النطفة؟ أذكر أم أُنثى؟ ما رزقها؟ ما أجلها؟ أشقي أم سعيد؟ فيقال له: انطلق إلى أُمّ الكتاب فاستنسخ منه صفة هذه النطفة، فينطلق الملك فينسخها فلا تزال معه حتى يأتي على آخر صفتها.
{لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ} كمال قدرتنا وحكمتنا في تصريفنا أطوار خلقكم.
{وَنُقِرُّ} روي عن عاصم بفتح الراء على النسق، غيره: بالرفع على معنى ونحن نقرُ {في الأرحام} {مَا نَشَآءُ} فلا تمجّه ولا تسقطه {إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} وقت خروجها من الرحم تامّ الخلق والمدّة {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ} من بطون أُمهاتكم {طِفْلاً} صغاراً ولم يقل أطفالاً لأنّ العرب تسمّي الجمع باسم الواحد.
قال الشاعر:
إنّ العواذل ليس لي بأمير

ولم يقل أُمَراء.
وقال ابن جريج: تشبيهاً باسم المصدر مثل: عدل وزور، وقيل: تشبيهاً بالخصم والضيف.
{ثُمَّ لتبلغوا أَشُدَّكُمْ} كمال عقولكم ونهاية قواكم.
{وَمِنكُمْ مَّن يتوفى} قبل بلوغ الأشدّ {وَمِنكُمْ مَّن} يعمّر حتى {يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر} وهو الهرم والخرف {لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً}.
ثمَّ بيَّن دلالة أُخرى للبعث فقال تعالى {وَتَرَى الأرض هَامِدَةً} يابسة دارسة الأثر من الزرع والنبات كهمود النار.
{فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء} المطر {اهتزت} تحرّكت بالنبات {وَرَبَتْ} أي زادت وأضعفت النبات بمجيء الغيث، وقرأ أبو جعفر: ربأت بالهمز، ومثله في حم السجدة أي ارتفعت وعلت وانتفخت، من قول العرب: ربا الرجل إذا صعد مكاناً مشرفاً، ومنه قيل للطليعة رئبة.
{وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} صنف حسن {ذلك} الذي ذكرت لتعلموا {بِأَنَّ الله هُوَ الحق} والحق هو الكائن الثابت {وَأَنَّهُ يُحْيِي الموتى وَأَنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ الساعة آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ الله يَبْعَثُ مَن فِي القبور}.
{ومِنَ الناس مَن يُجَادِلُ فِي الله بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى} بيان وبرهان {وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ} نزلت في النضر بن الحرث {ثَانِيَ عِطْفِهِ} نصب على الحال.
قال ابن عباس: مستكبراً في نفسه، تقول العرب: جاء فلان ثاني عطفه أي متجبّراً لتكبّره وتجبّره، والعطف: الجانب.
الضحّاك: شامخاً بأنفه، مجاهد وقتادة: لاوياً عنقه، عطيّة وابن زيد: معرضاً عمّا يُدعى إليه من الكبر.
ابن جريج: أي يعرض عن الحقّ نظيرها قوله سبحانه {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا ولى مُسْتَكْبِراً} [لقمان: 7] الآية.
وقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ الله لَوَّوْاْ رُءُوسَهُمْ} [المنافقون: 5] الآية.
{لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله لَهُ فِي الدنيا خِزْيٌ} عذاب وهوان وهو القتل ببدر.
{وَنُذِيقُهُ يَوْمَ القيامة عَذَابَ الحريق} فيقال له يومئذ {ذلك بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} وهذا وأضرابه مبالغة في إضافة الجرم إليه.
{وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلعَبِيدِ} فيعذّبهم بغير ذنب وهو سبحانه على أي وجه تصرّف في عبده فإنّه غير ظالم، بل الظالم: المتعدّي المتحكّم في غير ملكه.
{وَمِنَ الناس مَن يَعْبُدُ الله على حَرْفٍ} الآية.
نزلت في أعراب كانوا يقدمون على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة مهاجرين من باديتهم فكان أحدهم إذا قدم المدينة، فإن صحّ بها جسمه ونتجت فرسه مهراً حسناً وولدت امرأته غلاماً وكثر ماله وماشيته رضي به واطمأنَّ إليه وقال: ما أصبت مذ دخلت في ديني هذا إلا خيراً، وإن أصابه وجع المدينة وولدت امرأته جارية وأجهضت رماكه وذهب ماله وتأخرّت عنه الصدقة، أتاه الشيطان فقال: والله ما أصبت مذ كنت على دينك هذا إلاّ شرّاً، فينقلب عن دينه، وذلك الفتنة، فأنزل الله سبحانه {وَمِنَ الناس مَن يَعْبُدُ الله على حَرْفٍ} أي طرف واحد وجانب في الدين لا يدخل فيها على الثبات والتمكين، والحرف: منتهى الجسم، وقال مجاهد: على شكّ.
وقال بعض أهل المعاني: يريد على ضعف في العبادة كضعف القائم على حرف مضطرباً فيه.
وقال بعضهم: أراد على لون واحد في الأحوال كلّها يتّبع مراده، ولو عبدوا الله في الشكر على السرّاء والصبر على الضرّاء لما عبدوا الله على حرف.
وقال الحسن: هو المنافق يعبده بلسانه دون قلبه.
{فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ} صحة في جسمه وسعة في معيشته {اطمأن بِهِ} أي رضي واطمأن إليه وأقام عليه.
{وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ} بلاء في جسمه وضيق في معاشه وتعذّر المشتهى من حاله {انقلب على وَجْهِهِ} ارتدّ فرجع إلى وجهه الذي كان عليه من الكفر {خَسِرَ الدنيا والأخرة} وقرأ حميد الأعرج ويعقوب: خاسر الدنيا بالألف على مثال فاعل، والآخرة خفضاً، على الحال.
{ذلك هُوَ الخسران المبين} الضرر الظاهر {يَدْعُو مِن دُونِ الله مَا لاَ يَضُرُّهُ} إن عصاه {وَمَا لاَ يَنفَعُهُ} إن أطاعه بعد إسلامه راجعاً إلى كفره {ذلك هُوَ الضلال البعيد} ذهب عن الحق ذهاباً بعيداً.
{يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ} اختلف النحاة في وجه هذه اللام فقال بعضهم: هي صلة مجازُها: يدعو من ضرّه أقرب من نفعه، وهكذا قرأها ابن مسعود، وزعم الفّراء والزجّاج أنّ اللام معناها التأخير تقديرها: يدعو والله لمن ضرّه أقرب من نفعه.
وقال بعضهم: هذا على التأكيد معناه: يدعو لمن ضرّه أقرب من نفعه يدعو ثم حذفت يدعو الأخيرة اجتزاء بالأُولى، ولو قلت: تضرب لمن خيره أكثر من شرّه تضرب، ثمّ يحذف الأخير جاز.
وحكي عن العرب سماعاً: أعطيتك لما غيره خير منه، وعنده لما غيره خير منه.
وقيل: {يدعو لمَنْ ضرّه} من قوله: {ذلك هُوَ الضلال البعيد}، وموضع {ذلك} نصب ب {يدعو} كأنّه قال: الذي هو الضلال البعيد يدعو، ثم استأنف فقال: لَمَن ضرّه أقرب من نفعه، وتكون من في محل الرفع بالابتداء وخبره {لَبِئْسَ المولى وَلَبِئْسَ العشير}.
وقيل: يدعو بمعنى يقول، والخبر محذوف تقديره: لمن ضرّه أقرب من نفعه إلهه لبئس المولى الناصر، ولبئس العشير المعاشر، والصاحب والخليط يعني الوثن.
{إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جَنَاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ * مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ الله فِي الدنيا والآخرة} اختلفوا في المعنى بالهاء التي في قوله ينصره، فقال أكثر المفسّرين: عنى بها نبيّه صلى الله عليه وسلم قال قتادة: يقول: من كان يظنّ أن لن ينصر الله نبيّه {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ} بحبل {إِلَى السمآء} إلى سقف البيت فليختنق به حتى يموت {ثُمَّ لْيَقْطَعْ} الحبل بعد الاختناق {فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ} صنيعه وحيلته {مَا يَغِيظُ} هذا قول أكثر أهل التأويل، وإنّما معنى الآية: فليصوّر هذا الأمر في نفسه وليس يختم لأنّه إذا اختنق ومات لا يمكنه القطع والنظر.
قال الحسين بن الفضل: هذا كما تقول في الكلام للحاسد أو المعاند: إن لم ترض هذا فاختنق.
وقال ابن زيد: السماء في هذه الآية هي السماء المعروفة بعينها، وقال: معنى الكلام: من كان يظن أن لن ينصر الله نبيّه ويكايده في دينه وأمره ليقطعه عنه، فليقطع ذلك من أصله من حيث يأتيه فإنّ أصله في السماء، فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع عن النبي صلى الله عليه وسلم الوحي الذي يأتيه من الله، فإنه لا يكايده حتى يقطع أصله عنه، فلينظر هل يقدر على إذهاب غيظه بهذا العمل.
وذُكر أنّ هذه الآية نزلت في قوم من أسد وغطفان تباطؤوا عن الإسلام وقالوا: نخاف أن لا يُنصَرَ محمد فينقطع الذي بيننا وبين حلفائنا من اليهود فلا يميروننا ولا يؤوننا، فقال الله لهم: من استعجل من الله نصر محمد فليختنق، فلينظر استعجاله بذلك في نفسه هل هو مذهب غيظه، فكذلك استعجاله من الله نصر محمد غير مقدم نصره قبل حينه.
وقال مجاهد: الهاء في ينصره راجعة إلى من، ومعنى الكلام: من كان يظن أن لن يرزقه اللّه في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى سماء البيت فليختنق، فلينظر هل يذهبن فعله ذلك ما يغيظ وهو خنقه أن لا يرزق، والنصر على هذا القول: الرزق، كقول العرب: من ينصرني نصره الله أي من يعطني أعطاه الله.
قال أبو عبيد: تقول العرب: (أرض منصورة) أي ممطورة كأن الله سبحانه أعطاها المطر.
وقال الفقعسي:
وإنّك لا تعطي أمرءاً فوق حقّه ** ولا تملك الشقّ الذي الغيث ناصر

وفي قوله: {ما يغيظ} لأهل العربيّة قولان: أحدهما: أنّها بمعنى الذي مجازه هل يذهبن كيده الذي يغيظه فحذف الهاء ليكون أخفّ.
والثاني: أنّها مصدر، مجازه: هل يذهبن كيده غيظه.
{وكذلك أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ الله يَهْدِي مَن يُرِيدُ * إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا} يعني عبدة الأوثان، وقال قتادة: الأديان خمسة: أربعة للشيطان وواحد للرحمن. {إِنَّ الله يَفْصِلُ} يحكم {بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} قال النحاة: {إن الله} خبر لقوله: {إنّ الذين} كما تقول: إنّ زيداً ان الخير عنده لكثير، كقول الشاعر:
إنّ الخليفة إن الله سربله ** سربال ملك به ترجى الخواتيم

{أَلَمْ تَرَ} بقلبك وعقلك {أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدوآب}.
قال مجاهد: سجودها: تحوّل ظلالها، وقال أبو العالية: ما في السماء نجم ولا شمس ولا قمر إلاّ يقع لله ساجداً حين يغيب، ثم لا ينصرف حتى يؤذن له فيأخذ ذات اليمين حين يرجع إلى مطلعه.
وقال أهل الحقائق: سجود الجماد وما لا يعقل ما فيها من ذلّة الخضوع والتسخير وآثار الصنعة والتصوير الذي يدعو العاقلين إلى السجود لله سبحانه، كما قال الشاعر:
وفي كلّ شيء له آية ** تدلّ على أنّه واحد

{وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب} بكفره وهو مع ذلك يسجد لله ظلّه، قال مجاهد:
وقيل: يسجد لله أي يخضع له ويقرّ له بما يقتضيه عقله ويضطره إليه، وإن كفر بغير ذلك من الأمور.
قالوا: وفي قوله: {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب} واو العطف.
وقال بعضهم: هو واو الاستئناف، معناه: وكثير حق عليه العذاب بكفره وإبائه السجود.
حكى لي أبو القاسم بن حبيب عن أبي بكر بن عياش أنّه قال: في الآية إضمار مجازها: وسجد كثير من الناس، وأبى كثير حقّ عليه العذاب.
{وَمَن يُهِنِ الله} أي يهنه الله {فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ} قرأه العامة بكسر الراء، وقرأ إبراهيم بن أبي عيلة: فماله من مكرَم بفتح الراء أي إكرام كقوله سبحانه {أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ} [الإسراء: 80] {أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً} [المؤمنون: 29] أي إدخالاً وإنزالاً.
{إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ}.